سعيد أبكر أحمد يكتب : الحوار الوطني الشامل في تشاد: تجربة جديدة أم تكرار للفشل؟

17 سبتمبر 2022 م

عرف التشاديون صالات الحوار وقاعات المؤتمرات الدافئة منذ أكثر من خمسين سنة، وتجول الساسة العسكريون بين عدد من العواصم الإفريقية والعربية والأوربية بحثاً عن السلام، انطلاقاً من باريس والجزائر في نهاية حقبة الرئيس الأول “أنقارتا تمبلباي” إلى مدينتي كانو ولاغوس النيجيريتين في عهد الجنرال “فليكس مالوم”، ثم إلى طرابلس والخرطوم في عهد “قوكوني ودي”.

ورغم عشرات المؤتمرات التي عقدها الساسة والعسكر التشاديون تحت رعاية دول أوربية وإفريقية, إلا أن الواقع التشادي ظل يؤكد الفشل الذريع لهذه الجولات حيث غالبا ما تعقبها أصوات البنادق وحرب سيارات التويوتا المكشوفة.

وتمتلك جمهورية تشاد التي استقلت عن فرنسا في الحادي عشر من أغسطس 1960 سجلاً حافلاً في الانقلابات العسكرية؛ إذ شهدت عاصمتها انجمينا حرباً أهلية عنيفة في 12 فبراير 1979 استمرت تسعة أشهر، وعاد التشاديون بعدها إلى مشروع الفوضى التي أرساها أمراء الحرب الذين شكلوا مجموعات عسكرية عام 1980 تُعرف بالقوات المسلحة الشمالية والقوات المسلحة الشعبية، وما لبث الفرقاء بضعة أشهر حتى عادت العاصمة انجمينا إلى الصواريخ العنقودية البالستية والدبابات.

وثمة ارتباط قوي بين الحوار الوطني والثورة المسلحة يتجلى بوضوح في السياسة التشادية, حيث معظم المؤتمرات الفاشلة تأتي بثورة مسلحة؛ ففشل مؤتمر لاغوس وحكومة “قوكوني” أدى إلى دخول “حسين حبري” إلى انجمينا في يونيو عام 1982، وفشل مؤتمر بغداد وتمرد بعض الفصائل الثورية أدى إلى تنحِّي “حبري” من السلطة في نهاية نوفمبر عام 1990. وفشل مؤتمر سرت والحوار الذي نظمه الزعيم الليبي “معمر القذافي” بحضور الوزير “آدم يونسمي” في نهاية أكتوبر عام 2007 جعل حركات المعارضة المسلحة – وعلى رأسها اتحاد قوى المقاومة – تشن هجوما ضاريا على العاصمة انجمينا، وكانت حكومة “ديبي” قاب قوسين أو أدنى من الرحيل والأفول في فبراير 2008. بينما كان فشل الحوار الوطني عام 2021 أحد أسباب سقوط الرئيس الراحل “إدريس ديبي” في أرضية المعركة ضد جبهة التغيير والوفاق.

كيف تشكلت المرحلة الحالية؟

لم يكن النظام التشادي القائم على الحكم منذ الحادي والعشرين من إبريل 2021 قائما على أي شرعية دستورية؛ إذ سقط رئيس الجمهورية “إدريس ديبي إتنو” الذي حكم تشاد طيلة 31 سنة في منطقة زيقي بــ “كانم” إثر اشتباك مع “جبهة التغيير والوفاق”. ولم يكن الرئيس “ديبي” الذي ناهز السبعين قد أسّس لدولة تنعم بالديموقراطية والمؤسسات الدستورية.

بل جمع مجموعة من الصلاحيات وبحسب التقرير الصادر من الوفاق التشادي لحقوق الإنسان عام 2016 كان الرئيس “ديبي” رأس السلطة التنفيذية بصفته رئيساً للجمهورية، ورئيساً لأعلى سلطة قضائية بصفته الرئيس الفخري للمحكمة العليا، ويختار “ديبي” رئيس أعلى هيئة تشريعية هي البرلمان. ورحل فجأة دون أن يجهز نخبة سياسية واعية تهتم بمصالح الشعب ودون أن يقدم نظاما إصلاحيا يعزز من التنوع السياسي ويؤسس لمباديء الحكم الرشيد.

وتولى الفريق “محمد إدريس” السلطة بعد وفاة والده في إبريل 2021, وأعلن عن تشكيل مجلس عسكري ينحدر ثلثه من قبيلة واحدة، كما أن المجلس العسكري لا ينعم بشخصيات دستورية أو اقتصادية أو سياسيىة كان بإمكان الفريق “محمد” أن يشكل مجلساً وطنياَ يضم صفوة المجتمع التشادي حتى يساعدوه في اجتياز العقبات الصعبة التي يعاني منها الشعب التشادي، ولكي تكون عائدات النفط التي تحتل تشاد المرتبة الخامسة والثلاثين في قائمة أكثر الدول إنتاجاً له مساهمة في عملية التنمية الحقيقية.

والجدير بالذكر أن المجلس العسكري جاء رغماً عن الأحزاب السياسية وجمعيات المجتمع المدني وقفز أعضاء المجلس على عدد من الصلاحيات التي حُدِّد سلفاً واستُغِلّت السلطة في تعزيز نفوذ النظام السابق, مما جعلت مجموعة من الأحزاب السياسية تصف سياسية المجلس العسكري الانتقالي كامتداد لحكم الرئيس الراحل “إدريس ديبي”.

مفاوضات الدوحة وأهمّ ما جاء في مسوداتها

انطلقت مفاوضات السلام التشادية في الدوحة بتاريخ 13 مارس 2022, والتقت حركات المعارضة التشادية دون سابق تنسيق في العاصمة القطرية الدوحة. وإذا كان القطريون واقعيين عندما طلبوا من الحكومة التشادية ترشيح الحركات المسلحة المهمة التي تملك وجوداً عسكرياً على الأرض والتي تقدر بــ 10 حركات مسلحة، إلا أن المجلس العسكري الانتقالي أصرّ بأن تشارك كافة الحركات المسلحة التي يريدها من أجل العدد والتي تبلغ 52 حركة. وقضى التشاديون زهاء نصف عام في فنادق الدوحة أملا في صياغة اتفاق يخولهم للمشاركة في الحوار الوطني الشامل الذي تعقد جلساته حاليا في العاصمة التشادية انجمينا.

وقد جاءت معظم الحركات المسلحة إلى الدوحة دون أن تملك مشروعاً سياسياً وعسكرياً واضحاً يمكن أن تراهن عليه من أجل آمال الشعب التشادي. وكانت أبرز الحركات المشاركة هي “جبهة التغيير والوفاق” و “اتحاد قوى المقاومة” و “مجلس القيادة العسكرية لإنقاذ الجمهورية” و “المنسقية الوطنية للتغيير والإصلاح”.

ويمكن القول أيضا بأن المجلس العسكري الانتقالي لم يكن على استعداد كافٍ لمفاوضات السلام التشادية؛ إذ وقع رئيس المجلس العسكري الانتقالي الفريق “محمد إدريس” على قرار بتاريخ 9 مارس 2022 عَيَّن بموجبه وزير الخارجية التشادي “شريف محمد زين” رئيساً للجنة المكلفة بالحوار الوطني خلفاً للسيد “قوكوني ودي”, وهي خطوة أثارت ضجة كبيرة نظرا لما يملكه “قوكوني” من شعبية عريضة بين حركات المعارضة المسلحة والسياسين العسكريين, خاصة وأنه قدم جهوداً ملحوظة من أجل تقريب وجهات النظر بين الفرقاء السياسيين العسكريين والمجلس العسكري الانتقالي.

وقد تبيّن لاحقا أن الملف التشادي معقّد وأن هناك مبعوثا فرنسيا خاصاً يتدخل في كل صغيرة وكبيرة يعرف باسم السيد “فوشيه” – السفير الفرنسي السابق في تشاد الذي أرسلته باريس ليكون مبعوثها في مفاوضات السلام التشادية في الدوحة. كما اتضح أن هناك حركات مسلحة لا تطيق بعضها. بل وانشطرت الحركات القادمة إلى مفاوضات السلام التشادية في الدوحة والبالغ عددها 52 حركة إلى ثلاث مجموعات رئيسية, وهي (أ) مجموعة روما, و (ب) مجموعة الدوحة, و (ج) مجموعة قطر.

وقد صرّح وزير الدولة للشؤون الخارجية القطري “سلطان بن سعد المريخي” في حفل افتتاح عملية الحوار التشادي بتاريخ 13 مارس 2022 بأن دولة قطر ستكون ميسرة ومستضيفة للمفاوضات, ولم يُعلن بصورة رسمية أن دولته ستكون وسيطة في الحوار التشادي. ولكن دولة قطر تمكنت من أن تلعب دور الوسيط وأن تساهم في توحيد المعارضة بعد عدة اجتماعات قادها فريق الوساطة القطري بقيادة الدكتور “مطلق بن ماجد القحطاني” المبعوث الخاص لوزير الخارجية لمكافحة الإرهاب والوساطة في تسوية المنازعات.

وفيما يتعلق بالمجموعات التي شاركت في الحوار؛ فقد كانت مجموعة روما التي قادها العقيد “آدم يعقوب كوقو” مهمة لأنها تضم أبرز الفصائل العسكرية التي تملك وجوداً حقيقاً في ميادين القتال, ولأنها تضم المجموعات الخمس الأكثر تنظيما وكفاءة (“جبهة التغيير والوفاق” و “اتحاد قوى المقاومة”, و “مجلس القيادة العسكرية لإنقاذ الجمهورية”, و “اتحاد قوى الديموقراطية والتنمية”) .

ومن أهم المسودات التي قدّمتها المجموعات الثلاث: المسودة الثانية التي تعدّ عادلة ومنصفة من الوسيط القطري ولكن المجلس العسكري الانتقالي رفضها بشدة, حيث نصت هذه المسودة الثانية على عدة أمور منها ألا يترشح أعضاء المجلس العسكري الانتقالي في الانتخابات الرئاسية المقبلة، وأن تشارك حركات المعارضة المسلحة في اللجنة التحضيرية للحوار الشامل في انجمينا, وأن يتم الاتفاق على رئيس وزراء تُخصَّص له مجموعة من المهام المركزية ويكون من المعارضة.

ويضاف إلى ما سبق أن المسودة الثانية نصّت على عملية نزع السلاح ودمج القوات المسلحة بتشكيل لجنة من المجلس العسكري الانتقالي والمعارضة, وأن يتم بناء جيش وطني جمهوري حقيقي، وأن يتعهد المجلس العسكري الانتقالي بعدم قمع المظاهرات السلمية, وأن تشكل حكومة وطنية بعد عملية الحوار الوطني في انجمينا يشارك فيها نخبة سياسية بناء على الكفاءات وليست على المحاصصات.

وقد رفض المجلس العسكري مقترح المسودة الثانية وطلب مناقشة معظم نقاطها الجوهرية في المؤتمر الوطني السيادي الشامل الذي عُقد في العاصمة انجمينا بتاريخ 20 أغسطس 2022. وتم الاتفاق على خطوط عريضة في الدوحة بتاريخ 8 أغسطس 2022 ووقعتها 42 حركة مسلحة بالرغم من أن المسودة الموقعة تشمل فقط بعض النقاط العريضة المتعلقة بالاعفاء عن السياسيين العسكريين الذين شاركوا في عمليات عسكرية سابقة ضد الحكومة التشادية، وإعادة بعض الأصول والمنازل السكنية المسلوبة من المعارضين السابقين وفق قانون مكافحة الإرهاب.

ويرى بعض المهتمين بالشأن التشادي بأن مفاوضات السلام التشادية في الدوحة ليست إلا بوابة للمجلس العسكري الانتقالي وحلفائه للعبور إلى العاصمة انجمينا, وذلك لأن معظم الحركات المسلحة المعارضة وافقت على العودة دون شرط أو قيد, وإنما حتى تشارك في حوار انجمينا ولكي تنال اعترافا سياسيا من المجلس العسكري الانتقالي ومصالح متوقعة إبان الحوار الوطني الشامل السيادي.

وفي المقابل رفضت الحركات المسلحة المؤثرة على أرض الواقع التوقيعَ على اتفاقية مفاوضات السلام التشادية في الدوحة. ومن بين هذه الحركات (“جبهة التغيير والوفاق” و “مجلس القيادة العسكرية لإنقاذ الجمهورية” و “المنسقية الوطنية من أجل التغيير والإصلاح” و “المجلس الوطني للمقاومة من أجل الديموقراطية” و “المجلس الوطني لنهضة تشاد”)

الحوار الوطني السيادي الشامل في انجمينا

انطلق الحوار الوطني السيادي الشامل صبيحة يوم السبت الموافق 20 أعسطس 2022 في قصر الخامس عشر من يناير الذي يطل على فندق ايدجير بلازا – القاعة نفسها التي جمع فيها “ديبي” الأب مجموعة من السياسيين عام 1993 وشكلوا معالم الحياة السياسية التي استمرت ثلاثة عقود وصِيْغَ في رحابها دستور عام 1996.

وبلغ عدد المشاركين في الحوار الوطني السيادي الشامل 1400 مشاركاً ينتمي معظهم لحزب الحركة الوطنية للإنقاذ. وأصدر رئيس المجلس العسكري الانتقالي قراراً ينص على إلزامية تطبيق مخرجات وقرارات الحوار الوطني الشامل.

ومن بين الملاحظات التي تعتري الحوار الوطني السيادي الشامل: خطاب “موسى فكي محمد” رئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي الذي قدّم توصيفا حقيقيا للحالة السياسية الراهنة التي يعيشها المجتمع التشادي واكتسب بالخطاب ضجة القاعة بالتصفيق. وانتُخِب السيد “غالي انغوتي غاتا” رئيسا للجنة الحوار – وهو شخصية معارضة يتقن العربية والفرنسية, كما اختِير الدكتور “عبد الرحيم بريمة حامد” نائبا له.

الخاتمة

تكتنف عملية الحوار الوطني صعوبات جمة, منها أن أبرز حركات المعارضة المسلحة قد رفضت المشاركة وصرّحت بمقاطعتها لعملية الحوار، و حزب “التغيير” الذي يقوده الشاب السياسي “سوكسيكي ماسرا” قد أعلن رفضه للمشاركة في الحوار. وهناك استياء عام من المجلس العسكري الانتقالي بسبب غلاء المعيشة وضعف البنية التحتية.

من جانب آخر؛ كانت هناك انتقادات ضد إدارة الشيخ “ابن عمر محمد سعيد” لجلسات الحوار في الأيام الأولى, حيث يرى البعض أن المداخلات التي تأتي من المعارضة والموالين للمجلس العسكري الانتقالي بعيدة تماما عن واقع وتحديات الأمة التشادية، وأن فكرة الحوار الوطني السيادي الشامل تبدو غير مجدية. كما أن أكثر من 1000 شخص من بين 1400 شخصا الذين اجتمعوا في القاعة كانوا محسوبين على “الحركة الوطنية للإنقاذ” واعتُمِد نظام التصويت اليدوي على قرارت لجنة الحوار، مما يعني أنه من العسير منافسة المجلس العسكري الانتقالي في عملية التصويت والاقتراع حيث ينعم بأغلبية المقاعد.

ويلاحظ أيضا أن ثمة نقطة مهمة يريد المجلس العسكري الانتقالي تحقيقها عبر الحوار الوطني السيادي الشامل, وهي تمديد المرحلة الانتقالية التي من المقرر أن تنتهي في شهر نوفمبر المقبل، وستتاح لرئيس المجلس العسكري الانتقالي مجموعة أخرى من الصلاحيات الواسعة، ولا يستبعد أيضا أن يعلن ترشحه بصفة استثنائية للانتخابات الرئاسية، مما يعني أن مخرجات الحوار الوطني السيادي الشامل جاهزة مسبقة وما بقيت إلا عملية التوقيع عليها حتى تكون شرعية ويقول المجلس العسكري الانتقالي إن قرارات الحوار الوطني الشامل جاءت من لدن التشاديين الذين قرروا كل ما فيه, وأن ليس عليه إلا احترام إرادة التشاديين.

وأخيرا, يعيش التشاديون مرحلة مهمة ومفصلية اليوم, وبإمكان المجلس العسكري الانتقالي إذا كانت لديه رغبة حقيقية في صناعة السلام أن يحقق سلاما عادلا، وأن يفتح صفحة مشرقة مع التشاديين بعيدا عما شهدته سابقا من حيث تدخلات الدول المجاورة في علميات السلام والحوار مع الحركات المسلحة.

سعيد أبكر أحمد

باحث وكاتب سياسي من تشاد

من موقع

ALAFARIKA FOR STUDIES AND CONSULTANCY

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى