Site icon صحيفة الصيحة

خربشات الجمعة

(1)

توقفت السيارة “البيدفورد” أمام وادي شوشاي ووضع السائق الشهير بـ”صديق عقرب” سيجارة البحاري بين أصبعيه، وقبل أن يشعلها غمز للمساعد بإشارة وهي لغة خاصة بينه وبين مساعده الذي هرول لطبلون العربة ووضع بين يديه علبة كبريت عليها صورة جمل.. أشعل “صديق عقرب” سيجارته وأعاد تحسس طاقيته الحمراء التي جاءت بها فتاة من قرية “السعاتة الدومة” هدية للسائق الذي أنقذ والدتها من الموت بسبب مضاعفات “الولادة”.. نظر إلى وادي شوشاي وقد أخذ يهدر كأنه أسد أمام فريسته.. المياه تتدفق بغزارة والشمس توارت وراء السحاب المتناثر.. العبور للضفة الأخرى أشبه بالمستحيل.. جاءت عربة “عبد القادر قزوزة” الهينو وقد كتب على مؤخرتها “لو بأيدي” وقزوزة سائق ماهر عاشق للمريخ ولوردي.. فشل والده “إسماعيل” الشهير بأبوزرد سلطان الجلابة في كردفان بإقناعه عن قيادة السيارات وإدارة متجر كبير بسوق الأبيض.. ولأن “قزوزة” مغامر وعاشق للترحال من مدينة لأخرى.. يجتاز الأودية في عنفوان “جريانها” في فصل الخريف.. إلا أنه في تلك الأمسية “خاف” من مياه وادي شوشاي التي تمتد لأكثر من نصف كيلو.. ويصعب تمييز السيارات التي تقف في الضفة الأخرى قادمة من الدلنج وأبوزبد ولقاوة وكادقلي والضعين والمجلد وأبيي وأويل.. بعد إفراغ حمولتها بضائع متنوعة سكر وشاي.. زيت صابون.. طحنية بصل.. عدس وارز.. وتعود تئن من ثقل حمل أخشاب التك والمهوقني والقنا.. وعسل النحل.. وشرموط الغزال الذي يصطاده الصيادون والقنقليس والنبق.. والعرديب والدوم.. تعانق صديق عقرب وعبد القادر قزوزة.. كان لقاء قد جمع جيل البطولات بجيل التضحيات.. هبت نسائم الخريف باردة.. منذرة بليلة عصيبة.. من جهة الشرق السماء تنذر بمطر ليلي.. أخذ قزوزة وصديق عقرب يتجادلان.. سحابة ممطرة بجهة الشرق قزوزة يقسم بأن الأمطار قد غطت الرهد والسواني ولكن صديق يقول إن الأمطار تهطل في عرديبة وغابة شيكان.. أجمع الطرفان على أن الأمطار ستهطل في تلك الليلة مرة أخرى وتضاعف من مياه وادي شوشاي، وأمر قزوزة مساعده في العربة بإشعال النار وتجهيز “الحلة”.. انهمك “المساعدون” في إعداد حلة واحدة.. بتقطيع لحمة الماعز والبصل والزيت و”بصل مكادة” وهو الاسم الشعبي للثوم لإعداد وجبة غنية بالبروتين تعرف بحلة “القطر قام”..!

(2)

أطبق الظلام على المكان.. وعزفت موسيقى ضفادع الخريف وتم وضع السيارتين “البيدفورد” والهينو حذاء البعض.. ومد المشمع الأخضر.. لتأسيس مكان نوم للسائقين بينما يخلد المساعدون كل في مقدمة سيارته.. أخذت الأمطار تهطل برفق التي تسمى بالأمطار “السراية” من سرى يسري ليلاً.. وعند آخرين تسمى “الشكشاكة”.. صديق عقرب من الذين لا يفارقون الراديو في حلهم وترحالهم.. ولكن ساعة نزول المطر يضعف إرسال هنا أم درمان على الموجات “الشورت ويف” قبل دخول تقنية “الإف إم” محدودة المدى وعالية النقاء.. كانت الساعة قد تجاوزت الثامنة مساء وعلم الدين حامد يطلب من المستمعين الإصغاء لأغنية تقول كلماتها..

أقابلك وكلي حنية وأخاف من نظرتك لي

أخاف شوق العمر كلو يفاجئك يوم في عينيا

وراء البسمات كتمت دموع بكيت من غير تحس بيا

أخذت النشوة عبد القادر قزوزة وردد وراء الباشكاتب محمد الأمين كلمات “ود الحلنقة إسحق” ولكن الأمطار أخذت تشتد والرعد والبرق.. والليل والبرد.. وحدق صديق عقرب في السيارة “البيدفورد” وأخذ يتذكر طريقه الشاق من وادي شوشاي إلى لقاوة وكيف يعبر وادي الحمادي.. ووادي نبق ووادي النامية الواقع جنوب الدبيبات ووادي أبو حبل.. والدلنج ووادي الغلة.. حتى بلوغ لقاوة قبل أن تسد السيول والأمطار الطريق ويصبح متعذراً الوصول لتلك المناطق النائية من السودان.. ظل وادي شوشاي يمثل عازلاً طبيعياً بين كردفان الجنوبية والشمالية في فصل الخريف حتى جاءت شركة أدكو وشيدت الطريق بين الأبيض والدلنج في عام 1985م بفضل المعونة الأمريكية للسودان في سنوات مايو التي انقسمت لسنوات خصب وسنوات جفاف كما يقول زين العابدين محمد أحمد عبد القادر في مذكراته التي شغلت الدنيا مثل لوري عبد القادر قزوزة في سنوات السبعينات وهو يتجول ما بين جبال النوبة ودارفور.. والمدينة التجارية الكبيرة “الأبيض”.. تبدلت أشياء وجاءت سنوات “الجامبو” و”الزد واي” و”الكي بي” وانحسرت سيارات الفورد والتيمس “قدوم قصير” وغاب الاوستن واندثرت سيارات اللاندروفر والرنجروفر وأطلت شمس الكيلك وليلى علوى ولهيب الشوق وأصبح السائقون المهرة الذين يقيلون عثرة المحتاج أمثال قزوزة وصديق عقرب يجلسون الساعات الطويلة يجترون الذكريات بحلوها ومرها.. وقد خلد عبد الرحمن عبد الله للسائقين أغنيات ستبقى خالدة في مخيلة الناس مثل “كباشي” ذلك السائق الذي تغنت له نساء دار حمر وهن من أجمل نساء السودان..

كباشي لو برضى وصلني ود بنده

كباشي سيد الذوق وصلني ود دردوق

تحضر خضار السوق

في مثل هذه الأيام تهطل أمطار الخريف واللواري “تقيف” وتبقى الذكريات, عن أيام مضت وسنوات انقضت من العمر الجميل..

Exit mobile version