محمد طلب يكتب : البرميل المفقود

28 يوليو 2022م

 

العنوان مقتبس من قصيدة رائعة للشاعر المهندس والقانوني الضليع ورئيس الوزراء الأسبق محمد أحمد المحجوب بعنوان الفردوس المفقود يبكي فيها الشاعر تاريخ الأندلس المفقود ويقول مطلع القصيدة:

 

نزلت شطك بعد البين ولهانا

فذقت فيك من التبريح ألوانا

وسرت فيك غريباً ضل سامره

داراً وشوقاً وأحباباً واخواناً

فلا اللسان لسان العُرب نعرفه

و لا الزمان كما كنا وما كانا

أما مقالي هذا فليس بعيداً عن تلك المعاني وهو يحكي خواطر مغترب في إحدى الدول العربية البترولية يحكي ويحن إلى (برميله المفقود).

 

هنا وفي هذه الغربة اتلعثم كثيراً عند الكلام بالرغم مما عُرف عني من (فصاحة) و(لداحة) وحتى الجغرافيا وتلك المنظمة الدولية ولا ولن تشفع لدموعي.

 

اللغة في هذه الغربة حديثة نوعاً ما واحدث بالنسبة لأمثالي من (المختربين) نعم هي (خاء) وليست (غين) حتي لا يظن القارئ أنه خطأ إملائي.

 

الناس هنا تبيع ألسنتها والبرميل هو المؤشر وهو المتحكم في كل شئ

بأرضٍ كان (الجمل) سفينتها  في بحار الصحراء ورمز عزتها…. اصبح الناس هنا  اشبه بالثعابين تبدل زينتها كل عام، بل كل يوم وبالأحرى مع كل موقف…

الناس هنا على اختلاف ألوانهم وألسنتهم وأديانهم إلا أنهم اتفقوا ضمنياً ان يكونوا على لسان واحد خلقوا لغة جديدة للتفاهم والتعامل وربما (For Love) أو (كام كرتا هي محبت) أيضاً.

 

لغة مطاطية بلاستكية وآلية تتفوق على كل اللغات لما فيها من مميزات عجيبة….  ولم يبق من الجمل هنا إلا صبره تكرم به علي من احتلوا جغرافيته من البشر وغابات الأسمنت.

 

لغة لا ارض لها ولا وطن  كونها خليطاً من البشر من كل الدنيا تحمل خليطاً من اللغات (الأجنبية المحلية) و(المحلية الأجنبية) وهي غريبة عن (المحليين الأجانب) و(الأجانب المحليين) وقريبة منهم في ذات الوقت وإلا كيف يتواصلون بها؟؟؟

 

(يا زول) هنا تفقد كل علامات التعجب!!! والاستفهام؟؟؟ وطلب الاستزادة من (العِرفة) والمعرفة والإلفة والمحبة لتتحول إلى مجرد اصطلاح وعنوان تمييز بين الخليط غير المتمازج من (رفيق) و(صديق) و(زلمي) و(حاجي) و(جدع) والنداء للجميع هنا يا (محمد) مما خلق عندي ارتباكا.. انه مزيج  (اوبكي) غريب ومربك…

 

البرميل هنا لا تراه لكنه يسيطر على كل شئ وهو المؤشر لكل الاتجاهات.

 

أما انا فقد اتيت هنا  والبرميل عندي له حيز فيزيائي ووجود نَعرفه ونُعرِفه بالإضافة (برميل موية) لا نعرف غيره وارى فيه كل شئ… زجاج البيبسي وألواح الثلج… والماء البارد في المناسبات السعيدة.

 

البرميل (هناك) سهرات تتناوب ما بين حفلات الاعراس ومراقبة حنفية المياه في سنوات جافة في ارض النيل الخالد وعلى ضوء القمر وهنا أم درمان والراديو يذيع الأخبار والأشعار تفتح لنا أبواب المستقبل والخطب الحماسية تشعل في ارواحنا  شباباً اخضر وتكبر أحلامنا ونشيخ والبرميل عندنا (هناك) مزدوج يجره حمارٌ لجلب الماء للبقاء.

 

البرميل عندنا تكافل وتراحم وانس وشباب.. البرميل يزور كل بيوت الحارة ويشهد كل مناسباتها اتراحها وأفراحها وهو المخزون الاستراتيجي لكل بيت.. البرميل هو حبيب الشعب ونصيره يعرف كل احواله يشاركه المعاناة والسهر والتعب، فشكراً للحكام الذين منحونا فرصة الاستمتاع بالليالي المقمرة على صوت الراديو ومذيع الأخبار يبشر بحفر الآبار في ارض النيل والأشعار توقد مصباحاً وتبشر بغد أفضل والبرميل يمتلئ من (سرسار الموية) ويشخر ثلاثتنا أنا والراديو والحنفية.

بعد كل هذه السنوات أعود طفلاً يتعلم أبجديات لغة جديدة يتعثّر لسانه في نطق حرف والآخر بدون روح، فلكل مفردة روح وحياة تنقلها من عقل وقلب عبر حناجر وألسن وحبال صوتية إلى قلب وعقل آخر فتأخذ موقعها لتُضاف إليها روح جديدة وترجمة الرفض والقبول تسمح بمرور القيم.

 

الآن لساني لا يحمل روحي يحمل شيئاً آخر يسمح له بالعيش والتعامل دون الحياة في معناها الذي تحمله تلك الروح الهائمة التي يحملها جسد قوي وشاب (يدردق برميلاً) في حركات بهلوانية إلى سابع جار فتلك الحسناء تزف غداً وانا (البجيب البرميل) و(يكسر التلج) و(يفتح البيبسي).

 

والبرميل هنا شئ آخر، مقياس آخر، مؤشر آخر لاقتصاديات الدول ومستوى الدخل والرفاهية.

 

البرميل العجيب يرتبط بنا في حالات الفقر والغنى ونسبة الثقل واللون تحدد درجات الصفاء في حياتنا وسياساتنا…

 

وذاك  هو البرميل الخام، اما (الجاز) فهو وزير الطاقة والتعدين وليس احد مشتقات البترول…. وحليلك يا بلدنا.

 

سلام

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى