حجازي سليمان يكتب: موسيقى إبداع “قاسم زودي” للروائي عبد الغفور عصام

بيـن الإسهاب في الوصف والغوص في غياهب النفس وتعقيداتها كانت موسيقى إبداع قاسم زودي الرواية التي جاءت في 147 صفحة من القطع المتوسط.. للروائي عبد الغفور عصام..

التفكير المفرط يقود الى الخمول أو إلى القرارات المتهورة، من الأفضل أن يشتغل الإنسان بما بين يديه ويدع الباقي على الله.

مهما كان عمق القارئ لا يمكنه بأي حال من الاحوال اكتشاف كل خبايا الرواية وفي نهاية المطاف ستظل هناك نسخة حقيقية في ذهن الكاتب وخياله، كثيراً ما يراود شخوص أفكاره بتتابع الأحداث ويدفعهم للتوجس بالشخوص الذين هم بين السطور.
منذ متى اختفى صوت النقر على السقف، كان هناك مطر يتسرب عبر الشقوق والمفاصل الصدئة، النوافذ، البقع الرطبة على الجدران تبقبق، الآن المكان جاف وهادئ العمود الذي يقف بمحاذاته قد اختفى، يعني أن قد قطع شوطاً جيداً في الصف.. وعندما اشتد هطول المطر وصار الصف عبارة عن رؤوس طافية على سطح الماء العكر، الأوراق والأشخاص يغرقون ينجرفون بعيداً، حافظ على مكانه في الصف، وعندما جف المكان، وجد أنه تقدم مسافة معتبرة في الصف، لقد اقترب من تحقيق هدفه، إنه يستطيع رؤية الشباك، أخيراً يستطيع رؤية الشباك.
رمزية عالية للكاتب حيث يرى أننا لا نملك الوقت الذي نعيشه حيث أن الحياة تعطينا على قدر ما يمكننا تخيله.
هذا النص الروائي بشخصياته المتعددة يسلط الضوء على جوانب معتمة خفية غاية في التعقيد، في أعماق النفس البشرية، ويطرح العديد من التساؤلات الوجودية الهامة ويبرز لنا الكثير من التعقيدات والصراعات تلك التي تنتمي لبيئات اجتماعية مختلفة، حيث اهتم بالوصف الحسي للمكان والشخصيات.
أن بطل الرواية كان رفيقاً للراوي في بعض المشاوير حيث جعل منه تمثالاً لشخصية البطل الأوحد وأن ما دونه من شخصيات في خدمته لتدوين ملاحظاته الغامضة التي تثير في النفس الشكوك أحيانا واليقين أحيانا أخري، رغم الصعوبات والعثرات التي اعترت طريقه وهو بذات الروح الصامدة والنفس التي تجالد المشاق في اتونها، وتبحث عن المخاطر في طرق الحياة ،
وفي نهاية الرواية يسجلوا اعتراف قوي بأن قاسم هو البطل الحقيقي ويظهر ذلك في حجب جميع الأسماء ليفسحوا له المجال واسعاً .
ليتخذ الراوي المكان حيزاً وبطلاً ساحراً للرواية وهذه لفتة بارعة تؤكد دور الراوي في الحوار الصريح كراوي عليم مع شخوصه وترك المساحة لهم ليسمع آرائهم مهما كانت خطورة الموقف الذي يتخذونهم تجاهه سلبا كان أم ايجابا
وهذا يدل على النضج والوعي في معرفة السرد وتقديم النقد للنص بصورة دراماتيكية توضح المقدرة على تحمل اللغة التي تكون خالية من أصوات الشخوص
وتمثل نقد ذاتي يفسر بعض الملابسات التي قد يقع فيها القارئ وقد تكون بمثابة زاية خاصة تفيد القراء إذ ينظروا عبرها.
وتبين ذلك في ختام الرواية بطريقة مدهشة.
بداية الرواية سؤال ضمني عن شخص يود أن يكون بين الصفحات بطلاً يلبس روح الخيال ليتخطى كل العقبات، قاسم زودي اسم مبهم بوضوح يغني عن التفاصيل، متجانس بتناقض يسترعي الانتباه
تعريف لفظي لاسم مركب يجابه حظه في الخلود بين السطور، وقد يكون إنساناً يشابه ذاك الوجه الذي يتجول بين الصفوف باحثا عن نفسه، تعرض له القصص في أتونها من افواه ابطالها
وقد حكي له الحداد قصته وكيف كان ينتظر دوره خارج الخيمة ليقوم بتصلح الطاولة ويكون قد سبقه الذي يريد تصليح الإضاءة وقبله الذي يريد وضع المصابيح في مكانها الصحيح، (هكذا هي حيات الغانيات) وكيف كانت تعامله ست الدار بشغف وحميمية بالغة وفي كل مرة كان يندم ويعزم أن لايعود ولكنه حالما ترسل إليه ابنها يهرول إلي هناك مسرعا ليجد ماينتظره من مصير محتوم تسبقه القبل الساخنة، وايضاً صاحب الحمارة ، يحكي له كيف باع حمارته وذهب ينقب عن الذهب وعندما جمع كثيرا من المال وأصبح من الأثرياء وتزوج أجمل الفتيات ، اصبح الناس يعاملونه بمحبة واحترام وكثر المتملقون من حوله ولكن لم يدم الحال، ففقد كل املاكه وباع سيارته الفارهة وعاد كما لم يكن شيئا فانفض الناس من حوله.
لكنه عاد من جديد إلي التنقيب فوجد قطعة من الذهب في حجم شمامة بعد أن دلته عليها امرأة تحمل طفل ذات ليلة قمرية.
ولكن عادت الجنية وسلبته ما دلته عليه بعد أن اغوته وباتت معه ليلة في فراش الحميمية.
وقال أن الحياة لذة ومعنى الحياة هو الحياة في عظمها ، أي أن حياة الإنسان كالشهاب يحترق ثم يتلاشى لذلك يكون المغزى في الإحتراق.
يحكي له الأبطال ثم يدون ملاحظاته ويدخل كراسته بسرعة خاطفة.
برزت اللغة كمحور أساسي في الرواية وبطلاً حقيقياً حيث أبدع الكاتب في استعمال البلاغة بشتى الصور لافتاً بذلك القارئ بضرورة جماليات اللغة في النص السردي واهمية اللغة الرفيعة في تبنئ التنقل بين الشخصيات وادوارهم العابرة والدائمة كان له دور في تشويق المتلقي وشده إلي ما بعد الحكاية ومعرفة قاسم زودي قد تخرج خارج إطار الغلاف ومحتوى الكتاب وستصاحب القارئ الدهشة والمواقف والمسرحيات طوال تذكره لهذا العمل الرائع.
قصة الرجل الكبريتي وابنه العاشق الولهان كيف تمت معالجته للقصة والحكاية
كانت الطريقة حزينة ادت إلي انتحار الفتي النابغة، بعدها وجدوا اسم أبوسن في أي مكان وغرفته قد ملأت صورا لوجه به سن واحدة رمز للرجل الذي تزوج محبوبته فهو شخص طاعن في السن ولكنه غني ربما يفوق ابيه عمراً ولكن ظروفه المادية مكنته من أن يتزوج الحسناء التي عشقها ابن الرجل الكبريتي، بعد خدعته أمها بانها محجوزة لابن عمها ولكنها كذبت، اراد الكاتب معالجعة ظاهرة بغيضة متفشية في المجتمع برمزية جميلة وهي تكميم أفواه الفتبات واجبارهن على الزواج دون الموافقة، وكذلك ظاهرة الدجل والشعوذة التي تنتشر وردت هنا في طريقة معالجة الشيخ للفتي العاشق بحبسه وقال أنه مسكنون بجني كافر ويريد ديكا أسودا.
هذه رمزية للجهل والشعوذة التي تضر بمن يقع فيهم القيد.
ذهب العجوز ليصلي ، كان المكان يبعث بكآبة غريبة في صدر من يدخله، ربما بسبب نتانة الجوارب ، والاقدام الحافية أو السجادة المتيبسة المغبرة او صفائح الزنك التي تسقف المكان وتخنقه ،( هنا وصفية للمكان دون ذكر اسم المكان مما يجعل النص السردي بمجمله يكتنفه الغموض بصورة تجعل القارئ متأملا وباحث في وقت واحد وقد يخرج بنتائج عديدة ، ويغوص في دراسة النفس والفلسفة الوجودية لها ، والتي من تعاريفها أنها حركة فلسفية حديثة تؤكد علي أهمية التجربة الشخصية وتحمل المسؤولية للفرد الذي ينظر إليه على أنه إنسان ذو إرادة حرة بالكامل في كون حتمي لا معني له، وتعارض الفلسفة الوجودية في معتقداتها الفلسفة العقلانية والتجريبية).
وربما تلك الوجوه المقيتة الملتحية المكفهرة ذات الثياب القصيرة والنفوس المنافقة والرؤوس المتحجرة، الله أكبر صل الكهل على مقعد وصل قاسم في الصف الثاني من الناحية المقابلة.
بعد الصلاة رفع الإمام يديه بالدعاء
اللهم إنا نسالك ان ترزقنا ركعتين علي سطح القمر قبل الموت ويردد المصلون آمين ويبشرهم ان الحسنات في الفضاء تحلق وتسبح لانعدام الجاذبية فيكون الاجر مضاعفا الف ضعف وفي رواية الف الف ضعف والله يضاعف لمن يشاء
يبتسم المصلون ولابد أن اذكر ان قانون الجاذبية الذي بنئ به الكفار الطائرات والصواريخ ليصعدوا إلي الفضاء إنما هو استنباط من القرآن
هنا يختلط المحسوس بالملموس ويكون صراع العقل مع المسلمات حاضرا في الحوار الذي يفضي إلي الذهاب إلي فلسفة الوجود ونزاعات النفس وطغيانها بعد راحة الطمانينة والسلام.
اهتمت معظم الدراسات النقدية بوصف المكان في الرواية كما اهتمت بوصف الشخوص وباقي عناصر الرواية وزمان واحداث، وطريقة ميول الاحداث من عادات ومعتقدات للشخوص
فالمكان كما الاسطورة في الرواية فهو يكشف عن رموز وقضايا وأسرار وحبكات سردية
أراد الكاتب ان تتشكل إلي عقلية القارئ وباي مكان نضجت عناصر الرواية ودارت أحداثها، وهنا في هذه الرواية تم وصف المكان بصورة دقيقة وبالغة في الدقة فهو مبني وأجنحة وردهة وخيام دارت كل تفاصيل الحكاية فيه منذ أن حضر إليه قاسم زودي يحمل حقيبته ووجد فيه أناس يختلفون في كل شيء أعمارهم اشكالهم وألوانهم وعقلياتهم ، لكن المكان لم نعرف أسمه صراحة فكان غامضاً وتحكي للبطل فيه الحكايات ثم يصورها لنا في شكل أحداث متتابعة بسلاسة ودقة بارعة لم تفقد النص السردي بريقه ولم تجعله منقوصاً، ولكن يكتنفها الغموض في كل ملامحها .
ويمكنني المقارنة بينها وبين الرمز المفقود للروائي الامريكي دان براون التي تناولت مغامرة البروفيسور روبرت لانغدون الذي يدرس في جامعة هارفرد وأنه بطل معظم روايات دان براون ، تبدأ المغامرة عندما تتم دعوته من احد اصدقائه كي يلقي محاضرة في مبني الكابيتول ويستجيب لانغدون لتلك الدعوة، حيث تبدا الأحداث المثيرة ويلاحظ البروفيسور شيئاً مريباً يحدث في القاعة الرئيسية في ذلك المبنى حينما يجد رمزاً بطريقة معقدة وتبدأ المطاردة والغموض.
هناك المكان محدد والبطل ايضا وطبيعة عمله فهو متخصص في تفكيك الرموز والشفيرات .
لكن هنا البطل اسمه غامض وطبيعة عمله أيضا غامضة وكذلك مكان الاحداث لم يتم تحديدة بل بغوص في غياهب الغموض، حالما تنتهي من الرواية فتحاول تجفيف عقلك الذي يتصبب عرقاً وسيظل مبللا بالاسئلة التي توجد في منطقة حائرة تضج بالتساؤلات.
شكل الوصف والحوار ابرز وسائل السرد القصصي، إذ لا يمكن لاي سارد أن يتخلى عنهما بشكل أو بآخرن لذا فقد حرص الروائيون والقصاص على الاستخدام الأمثل لهذين العنصرين، ويلجأ القاص إلى الوصف لابطاء الزمن السردي وإعطاء صورة ذهنية عن أشخاص ومشاهد، فيبرز هنا حيث تم دعوة قاسم على وجبة من لحوم البشر فغاص الراوي بعيداً حيث اسهب في الوصف ليكون الزمن على سعة من الإبداعية.
ويعمل الوصف على ردم الفجوة السردية التي قد تحدث في النص القصصي فضلا عما يقدمه الوصف من معلومات للقارئ عن فكرة الرواية أو القصة ومقصدية الكاتب ، ففي هذه الرواية قد نري الأيدلوجيا تطوف بنا في عوالم السياسة التي تخص المكان والشخوص بمكان.
لا يمكن للسرد ان يستغنى عن الوصف، لذا يكون الوصف نافعاً في السرد ومطوراً للحدث، فإذا كان السرد يعمل على كشف الأحداث فإن الوصف يساعد على بناء اللغة، وإعطاء الوصف للشخصية وللمكان والموجودات، برعت رواية قاسم زودي في هذا الجانب فكان البناء السردي والعماري للنص الروائي قمة الجمال وروعة في التماسك، كان الشخوص طلاءاً يزيين جدران النص السردي والأحداث صوره الخلاقة التي تعكس معنى الاوصاف الدقيقة.

25/ 9/ 2021م

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى