تَداعيات الهُجُوم على الدعم السريع

بقلم: د. محمد عيسى عليو

الهَجمة الإعلامية الشّرسة التي تُواجه قُوّات الدعم السّريع تُؤكِّد أنّ هذا البلد تتقمّصه مُكوِّنات إقصائية لا تُريد للآخر أن يكون له دَورٌ في خدمة الوطن إلا ثانوياً وهامشياً.. وهذا يُؤكِّد أيضاً صدق تحرُّكات الثوار الأول في الخمسينات وستينات القرن الماضي، كجبهة الشرق وجبهة جبال النوبة وجبهة نهضة دارفور وغيرها من الحركات السرية. كلها تَدُور حول المركز وقياداته الإقصائية والتي تنتمي في مُعظمها إلى عُنصرٍ وَاحدٍ, أمّا الجنوبيون فتنبّهوا باكراً لهذه المُؤامرة فحاربونا بجد حتى فرزوا “معيشتهم”.

وأحيل القارئ الكريم للمُقارنات والحيثيات التالية منذ العهد الوطني 1955م: في عهد الرئيس الراحل إسماعيل الأزهري حَصَلَت مجزرتان، الأولى: المُعالجات العسكرية الباطشة للانتفاضات الجنوبية سواء ضرب المُتظاهرين العَاملين في مَصانع القطن بالسلاح الناري أو قَمع تمرُّد توريت العسكري القاسي. المَجزرة الثانية التي اُرتكبت في عهد إسماعيل الأزهري هو قَمَع العُمّال في النيل الأبيض وحشرهم في “جملون” ضيِّق حتى مَاتَ أكثر من ثلاثمائة نفس بشرية اختناقاً وسُميت هذه المُحادثة بعنبر جودة في كوستي. هذه الانتهاكات عياناً بياناً ونحتفظ بأسماء قادة الشرطة حتى يوم الله، هذا ومع ذلك لم تكن هناك مُحاسبة، ولم تكن هناك اتّهامات جهوية لجهة إسماعيل الأزهري وظلت قبيلته البديرية الدهمشية في أمنٍ وأمانٍ. لم يُحرِّك سكينتها غُبن المغبونين ولا ثأر الثائرين بحسب أنّ الأزهري شخصية قومية وليست قبلية. وإذا كانت هناك مسؤولية تتحمّلها أجهزة الدولة وكذلك حكومة عبود التي أعدمت عَدَدَاً من الضباط على رأسهم الضابط علي حامد وكذلك مُعالجات حكومته الشّائهة التي بطَشَت بالجنوب. ومع ذلك لم تدمغ قبيلة الشايقية بهذا الوصم المُخل. ويمر التاريخ بمرحلة الرئيس النميري التي أسرفت في القتل والسّحل والإعدامات خارج القانون، سواء مُحاكمات الشيوعيين غير العادلة في 1971م، وحادثة قصر الضيافة التي تقشعر لها الأبدان، حيث فقدنا فيها خيرة ضُباطنا. ومع وُجُود أجهزة الدولة لم تَستطع مُحاكمة شخصٍ واحدٍ وما زالت منكورة بين قُوّات نميري وهاشم العطا. وقبل ذلك مَجازر الجزيرة أبا وود نوباوي وبعدها عملية حسن حسين 1975م ومُحمّد نور سعد 1976م التي فَقَدَ الوطن خلالها آلاف الأشخاص، ولكن ظلّ الدناقلة في أمنٍ وأمانٍ لم يسبهم أحدٌ بفعل النميري لسببٍ بسيطٍ، أنّ نميري يمثل رمزاً للدولة ويتصرّف وفق مرئيات مُؤسّساته وتقديراته الشخصية. أمّا عهد عمر البشير فهو عهد معاش للجميع ولا أسهب فيه كثيراً، فقط أقول إنه أشنع نظام مَرّ على السودان على الإطلاق وضحاياه يمشون على أرجلهم، الأحياء منهم والأموات قُبُورهم شاهدة على كل انتهاكاته ومع ذلك لم يصف أحد الجعليين بأنّهم قتلة وظَلَمة وأنّهم عُنصريون، ولم تُوصف جهتهم في الشمال بأيِّ صفة خارج نطاق القانون، ولم نذكرهم بأنّ حكم عمر البشير هو حُكم المك نمر الثاني.

ولكن في حالة الدعم السريع، فالأمر مُختلفٌ والداخل في النفوس “إتعرف”، وُصمت هذه الفئة العسكرية المُنتمية إلى القوات النظامية بأنها قوات قبلية وأنها جهوية، بل تعدى الأمر أنّها وقائدها ينتميان الى خارج السودان. ولم يعد الأمر سراً. فقبل ثلاثة أسابيع، اجتمع الفريق أول محمد حمدان دقلو بقيادات سياسية كبيرة وكُنت حُضُوراً من بين هذه القيادات، ومن بينها الدكتور علي الحاج والمهندس الطيب مصطفى والتجاني سيسي وأبو قردة ود. عبد القادر إبراهيم من جبهة الشرق وآخرون، قال أمامنا الفريق أول دقلو إنه وُصف بأنّه غير سُوداني، وإنه لا يستحق هذا الكرسي. ووُصفت قواته بالقَتَلَة بما أنّها اُستدعيت لحفظ الأمن في ولاية الخرطوم، فأعلن أمامنا أنه سيذهب اليوم ساحباً قُوّاته خارج الخرطوم.. وأردف قائلاً: وبهذه الحالة التي أشاهدها فإنّ وضعكم في الخرطوم سيصل مرحلة الاحتراب الدّاخلي وسيسيل الدم مدراراً، وإنه لن يخسر طلقة واحدة في سوداني. ولكن المُنتصر بين المُتحاربين سيلتفت وسيجد قوات حميدتي تنتظره للتفاهُم حول توفيق أوضاعها ولا أطلب غير ذلك وسيتم الأمر بإذن. عندما كان يقول حميدتي هذا الكلام ظلّ الناس في صَمتٍ وحيرةٍ ووجومٍ وخجلٍ، خَاصّةً عندما قال إن الناس يقولون إنّني لست سودانياً وإنّني لا استحق هذا الكرسي. ثم بعد ذلك بدأت المُداولات والرجاءات والتبريرات بأنّك رجل دولة لا تلتفت لمثل هذه الشائعات والأكاذيب المُغرضة، وأنّ أي حاكم دولة سيُقال فيه، وأنت الرجل الثاني في دولتنا، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قيل فيه أنه كاذب وأنه شاعر وأنه ساحر وهكذا من كذب وسقط القول. ثم أمن الجميع على دور قوات الدعم السريع وضربوا عدة أمثال في ذلك، وأخيراً طالبوه بعدم سحب قُوّاته حتى تهدأ البلد.

هذا الكلام كُنت حُضُوراً وشاهداً، ولم أر الأخ حميدتي غاضباً وحزيناً من قبل مثل ذلك اليوم.. الذين يتّهمون الآخرين بعدم السُّودانوية من أين أتى أجدادهم؟ ألم يسألوا أنفسهم هذا السؤال..؟ أولاً أقول إنّ كل دول العالم دول هجرات والأصلية فيها هي التي أصبحت أقليات للتّزاحُم الهجري الذي انتاب الدول، ودُونكم أوروبا وأمريكا الحالية أين كثافة الهنود الحُمُر في أمريكا؟ وأين كثافة البشمن في أستراليا؟ وحتى الساكسون في بريطانيا وأمريكا أصبحت أقليات بيضاء مُتشبِّثة بالحكم والمال للمُحافظة على كياناتها وستضعف لا مَحالة بواقع الزحف والتوالُد السُّكّاني الآخر. وهكذا السودان بلد هجرات سواء من مصر أو الجزيرة العربية أو من اليمن أو من شرق أفريقيا أو من جنوب السودان أو من أفريقيا الوسطى أو من تشاد أو من ليبيا في عهود بعيدة. وقليل من السودانيين “Indigennous” أصلاء لم يفدوا من الخارج، لذلك سُب السودانيون بجذورهم البعيدة كلمة حق أريد بها باطل كلمة تُطلق في الهواء دُون طائلٍ يجب أن لا تحرِّك فينا ساكناً. فقط قل للذي يقولها لك أسأله عن قبيلته وأسكت واللبيب بالإشارة يفهم.

ما يُؤلمني ويغيظني هو وصف حميدتي بالخليفة عبد الله. هنا تكمن فوارق الناس في الجهل والمعرفة والبصر وعدم البصيرة.. ما هي أوجه الشبه بين الخليفة عبد الله وحميدتي..؟ إلا إذا يجمعهما الرابط الجهوي الكبير غرب السودان الذي يضم مئات القبائل، والذين يُروِّجون لذلك فهم يدعمون حميدتي من حيث لا يشعرون. ولكنهم على المَدَى البعيد سيشققون هذا الوطن الكبير المضياف بعامل الدولة العَميقة العقيمة الجاهلة، لا الزمن في عهد الخليفة يُساعد حميدتي ليكون الخليفة عبد الله الثاني، ولا الطرح الوطني يُساعد أيّاً من السودانيين الانفراد بسُلطة أتوقراطية أو ديكتاتورية كما حصل في عهد الخليفة، ولا الحكم العسكري المُنصرف.

كان أوجب لأرباب الدولة العميقة وقيادات الأحزاب اليسارية والأحزاب الجهوية الأخرى، أن تدعو للمُناصحة والمُكاشفة والبَحث عن الأخطاء المَوجودة في الواقع وليست الموجودة في الخيال وهذا يُقرِّب الشقة بين أبناء الوطن الواحد، لأنّ قوات الدعم السّريع، قُوّات حديثة التكوين، وكل ما أقابل قياداتها في أيِّ لقاءٍ جامعٍ أجد أنّهم يرحبون بالنصح ويحبون التطوير. منذ كانت بذرة صغيرة بدأت في بيتٍ واحدٍ شَمَلت مُعظم البيوت السُّودانية الوَسيطة والهَامشية التي سَدّت في وجوهها آفاق التّوظيف في الدولة العَميقة العَقيمة. الآن القوات في الدعم السريع تزخر بأبناء دارفور وكردفان والنيل الأزرق والشرق، واندغمت فيها قوات من القُوّات المُسلحة، كل ذلك من أجل تطوير الفكرة القبلية التي بناها البشير إلى فكرة وطنية جامعة مانعة تنتمي لهذا الوطن، ومن ضمن القوات المسلحة السودانية. ومع ذلك هناك أخطاءٌ من بعض أفراد قوات الدعم السريع ولا بُدّ أن تكون ما دام أعدادها بالآلاف، ولكن حسناً فَعلت قيادات الدّعم السريع بإعلان رقم مفتوح على مدار السّاعة للشكاوى الخاصّة بالتّجاوُزات. مثل هذه القرارات تدعم الدعم السريع ولا تنقص منه شيئاً، لكن الاتّهامات لن تضر الدعم السريع على المَدَى القريب ولكن للمدى البعيد تضر بالسودان.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى