عطاء كبير في تاريخ الأغنية السودانية .. ود الحاوي.. قائد التحرر والبساطة!!

 

كتب: سراج الدين مصطفى      3يونيو2022م

التفاتة ذكية:

أشار عليّ الأخ الأستاذ (مهدي التوم) ابن مدينة كوستي المقيم بدولة قطر أن السودانيين هناك يضعون اعتبارا خاصاً للموسيقار الكبير عبد اللطيف خضر الشهير بود الحاوي .. وقال إنهم يفتخرون به كرمز سوداني أصيل يعبر عنهم وعن ثقافة السودان .. مؤكداً على ضرورة التوثيق لهذا الهرم الإبداعي الكبير الذي يستحق أن تفرد له المساحات الكبيرة للتأسيس لفكرة تكريمه نظير ما قدم من عطاء كبير في تاريخ الأغنية السودانية .. وتجاوباً مع مناشدة الأخ (مهدي التوم) استعيد مقالة كنت قد حاولت فيه أن أتوقف في بعض جوانب مسيرة هذا المبدع الكبير.

أغنية المصير:

بالتأمُّل العميق في أغنية بقامة (المصير) يكفي على أنها أغنية تؤشر على عبقرية صانعيها .. فهي احتشدت بكل ما هو ومختلف وجديد .. ولعلها واحدة من الأغاني التي مثلت بعثاً في الأغنية السودانية من حيث تركيبتها اللحنية ومفردتها الشعرية .. فهي أغنية تمثلت فيها كل عناصر الأغنية الخالدة .. وهذا يؤكد تماماً على العبقرية الشعرية للشاعر الفذ (سيف الدين الدسوقي) الشاعر صاحب المفردة العميقة والمتجاوزة .. ولعل الموسيقار عبد اللطيف خضر الشهير بــ(ود الحاوي) وضع لحناً موازياً للنص .. مما أكسب الأغنية بعداً جمالياً وطعماً وروحاً عالية كان مرورها النهائي عبر حنجرة الفنان الذري إبراهيم عوض.

تميز وعبقرية:

قصدت تحديداً أن أتوقف عند أغنية (المصير) كنموذج .. ولكن هناك نماذج غنائية لا تحصى أو تعد للملحن العبقري عبد اللطيف خضر ود الحاوي والذي من فرط تميزه وعبقريته كان أصغر موسيقي ينضم لفرقة الإذاعة السودانية، فقد عُيِّن بالإذاعة وكان وقتها ابن (14) عاماً في حقبة الأستاذ متولي عيد براتب قدره (12) جنيهاً اشترى منها عجلة (رالي) يحمل عليها آلة الأكورديون التي أصبح يبدلها بأخرى جديدة كل ستة أشهر مما يؤكد على ضخامة الراتب وعظمة الجنيه في تلك الحقبة من الزمان.. وهو شارك  في العزف لكل الفنانين، ولكنه احتفظ لنفسه بعلاقة فن ومحبة خاصّة بالفنان الذري ابراهيم عوض، فهو من أكثر الفنانين الذين عزف معهم قبل أن يلج مجال التلحين، وكان إبراهيم عوض في تلك الفترة مُحتكراً للشاعر الكبير والملحن الفذ عبد الرحمن الريح والشاعر والملحن الطاهر إبراهيم.

التحرُّر والبساطة:

وإذا تأمّلنا جميع الألحان التي قدّمها ود الحاوي نجدها تجتمع تحت عنوان واحد هو التحرر، فأصبحت القاعدة أنه لا توجد قاعدة، فقد تحرّر ود الحاوي في قطعه الموسيقية من القوالب القديمة للموسيقى البحتة والتي كانت تضم التراث الشعبي والحقيبة والطنبارة وكل الأشكال الكلاسيكية القديمة.. وظلّت تلك الأشكال سائدة حتى تفنن ود الحاوي في تكسيرها واحدة وراء الأخرى، وهنا لن ندخل  في تفاصيل أكاديمية (لا تتوافر لنا) لكن يمكن إيجاز القول في أنه نجح في فك أسر الموسيقى من قوالبها التي جمدت مع الزمن، ومع تحوُّل الفن من التطريب إلى التعبير بمقدم الفنان والموسيقار محمد الأمين في مطلع الستينيات أصبح للتعبير الأولوية المُطلقة عند الموسيقيين والجمهور على السواء.

استخدم عبد اللطيف خضر ود الحاوي في تلحين أغنياته إمكانيات مختلفة للتعبير، وقد أثرى بذلك حركة الموسيقى عموماً، فلجأ المؤلف الموسيقي إلى توظيف الأداء الموسيقي بالاهتمام بالأوركسترا وإدخال آلات جديدة وإيقاعات جديدة وتراكيب ميلودية مُبتكرة، وببروز ألحانه ذات الثراء أصبحت الحاجة أكثر إلى التوزيع الموسيقي مما أفاد الموسيقى السودانية بشكل عام لتنفتح على عوالم علمية جديدة لم تكن متوافرة في الزمن السابق.

المحتوى الميلودي:

عن ذلك اهتمام ود الحاوي بالمقدمات الموسيقية كما في أغنية (المصير) وهو يشبه في ذلك تماماً الموسيقار المصري الراحل عبد الوهاب  الذي اهتم  بمقدمات الأغاني وجعل منها قطعاً موسيقية متكاملة اشتهرت كثيراً بين هواة الموسيقى وبعدها تسابق الملحنون لتقديم أفضل ما عندهم من موسيقى في مقدمات الأغاني ، وهي مقدمات غاية في الثراء، بل إنها في كثير من الأحيان تفوقت على المقاطع الغنائية من حيث مُحتواها الميلودي والأوركسترالي، بل والتعبيري أيضاً.

غاية الآمال:

موسيقى أغنية (غاية الآمال) من أجمل مؤلفات ود الحاوي الموسيقية ، وهي موسيقى تقطر رقةً وعذوبةً وتنقل السامع إلى آفاق وأعماق من التعبير عن موقف من أرق المواقف الإنسانية: العتاب وهي من آيات التعبير بالموسيقى عن الشعور الإنساني.. وكما يقال علمياً إن للتذوق الموسيقى عدة مستويات للتذوق حسب الجمهور.. فهناك من يستمع للموسيقى على المستوى الحسي لمجرد التمتُّع بالأصوات الموسيقية ذاتها دون تفكير فيها.. وهناك المستوى التعبيري، وهو محاولة تعرف المقصود من القطعة الموسيقية وما تعبر عنه.

أما المستوى الموسيقي البحت فهو نابعٌ من النغمات الموسيقية ذاتها وأسلوب معالجتها، ويصعب على الجمهور العادي أو المتوسط الشعور بهذا المُستوى شعوراً كافياً.. ولكن عبد اللطيف خضر ود الحاوي جعل من كل تلك المفاهيم المُعقّدة واقعاً بسيطاً يُمكنه فهمه على أبسط الوجوه في مُجمل ما قدمه من ألحان توزّعت عند كل المطربين.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى