Site icon صحيفة الصيحة

شاي بالبسكويت

بعض العادات الصغيرة ظلت تلازمني طوال عمري المديد المنصرم.. لم تفلح سنوات الوقار ولا الأمومة الرشيدة في النيل منها.. أمارسها بحب, وأحيا فيها طفولتي الضائعة بفرح غامر لا يكترث لتحفظات الآخرين..

فلا أزال أمعن في تكسير ألواح  البسكويت داخل كوب الشاي بالحليب، ثم أتلذذ بالتهامها بالملعقة.. قد يقتصر الأمر فقط على الشاي المنزلي لأن البرتكول يفرض علي لبس قناع الإتكيت خارج المنزل ويحرمني من هذه المتعة العظيمة على مضض..

مشكلتي الحقيقية تتمثل في كوني لا أرى نفسي على ما أنا عليه!! فالصورة الذهنية المرسومة داخل خاطري عن “داليا” وقفت منذ سنوات عند حدود تلك الصبية اليافعة ذات الضفائر المملوءة بالحماس والحب.. والتي تجلجل ضحكاتها في كل الاتجاهات وهي تتنقل بين الدروب برشاقة وتفاؤل وتسامح..

ورغم التجارب القاسية التي عبرت حياتي وأكسبتني الخبرة وفتحت عينيَّ على مكامن الوجع أطلعتني على أسرار الحياة المدهشة والصادمة، فإن تلك الصورة ظلت راسخة ومؤثرة تنعكس بوضوح على تفاصيلي وسلوكي..

ولا أعرف إن كان هذا الأمر يعد مفسدة أم محمدة، ولكني أعرف أن الشيب الذي غزا رأسي لم ينل من روحي أبداً, ولا استطاعت الأيام أن تحول بيني وبين عاداتي الصغيرة المقدسة.. وربما أسوأ ما في أمر هذه الصورة الذهنية الراسخة أن الآخرين يرون الزيادة المريعة التي تراكمت على وزني ولا أشعر بها فعلياً. فشتان ما بين ذلك الجسد النحيل الذي اعتنقه وبين تلك الشحوم المتحركة فعلياً ككتلة تمثلني في حيز الحياة!!

فهل هذا شباب الروح الذي يتحدثون عنه؟! وما قيمة ذلك الشباب والعمر يركض مسرعاً وينسرب من بين أصابعي؟! هل أخدع نفسي وأضللها؟! أم أتحايل على القدر؟!

وهل يضع الموت اعتباراً للوهم الحميد الذي أحياه؟! هل يرجئ قدومه الأكيد حتى أستوعب فعلياً أن ما تبقى من عمري لن يكون أبداً بمقدار ما مضى منه؟!

لقد فاجأني بعض الأصدقاء الأعزاء بالتعاون مع أبنائي الغوالي باحتفال صغير بمناسبة ما أسموه عيد ميلادي ظناً منهم بأنه أمر مفرح.. ولكنهم لم يلحظوا في غمرة اجتهادهم المقدر أنهم يلحون في تذكيري بسنواتي المنصرمة، وكيف أنني دخلت في حيز الشيخوخة بعد أن بلغت عمر النبوة!!

فبقدر ما أسعدني اهتمامهم اعترضت حلقي غصة نائحة لأن الطفلة المقيمة بأعماقي لا تزال تنتظر أحلامها الوردية. فهل يعني العمر الذي بلغته أن أقلع عن إدماني لأكياس “الداندرمة” و”القنقليز بالشطة” وقراءة الروايات العاطفية وكتابة الخطابات الغرامية الورقية للرجل الذي يخصني؟!

هل يعني ذلك الالتزام الكامل بالوقار وادعاء الجدية والحزم ولعب دور المصلح المرشد المثالي مع أبنائي وفي إطار مجتمعي؟! هل يعني أن أتوقف عن كتابة الخواطر وأمتهن الشأن السياسي؟! لا أعرف ما يجب اتباعه تحديداً من سلوك.. ولكني أعلم تمام العلم أن تلك الصورة الذهنية اليافعة التي تستوطنني هي التي تعينني على احتمال ضغوط الحياة وعبور أزماتها المتلاحقة والصبر على آلامها على أمل الغد الأجمل..

× تلويح:

لا يعدو العمر كونه مجرد أرقام..!

Exit mobile version