Site icon صحيفة الصيحة

معاوية حسن يس يكتب: جيل “الخيبة الفنية”، نجوم صِنعتُهم ترديدُ الغناء “المسموع” و”الحقيبة”(2) .. مكارم بشير وزملاؤها يفتقرون إلى “مشروع فني”، ومصيرهم أفول نجمهم عاجلاً أو آجلاً

 

 

(1)

لا تختلف مشكلة مكارم، وبنات جيلها إلا في بعض التفاصيل الدقيقة، لكن النظرة إلى الغناء باعتباره وظيفة، ومكسباً ومدخلاً للثروة والاستثمار المالي هي ما يجمع هؤلاء الفنانين، وهاتيك الفنانات. وكانت النتيجة المنطقية والطبيعية صفراً كبيراً في مسيرتهم. وأعتقد أن الاستثناء الوحيد في المشهد الغنائي منذ مطلع الألفية يتمثَّل في التقدُّم الذي تحقق في أداء الفرق الموسيقية السودانية، سواءً أكانت تابعة لأجهزة إعلامية، أو تلك التي تنتمي إلى الأندية والكيانات الاجتماعية. وأتمنى أن أرى قريباً فرقاً موسيقية تقدِّم حفلات كاملة من دون مغنيين. ولولا التطوُّر الكبير في أداء الفرقة الموسيقية لظهر كثير جداً من عيوب أصوات فناني وفنانات الألفية.

(2)

ولتزداد مشكلتهم استفحالاً، لا بد من الإشارة إلى انغماس هذا الجيل من الفنانين والفنانات، ومن يشايعونهم، في تقديس أغنية “الحقيبة”، والإعلاء من شأنها. حتى أنهم أضحوْا يتنافسون على الاستئثار بأداء أكبر عدد من تلك الأغنيات. وبدأ مؤيدوهم يرفعون لهم القُبُّعات، ويُضْفُون عليهم ألقاباً من قبيل “ملك الطرب”، و”عملاق الغناء”، و”سلطان الطرب”، و”الإمبراطور”، كل هذه الملوكية والسلطنة والإمبراطورية على أكتاف غناء الآخرين، معنى ذلك أن الساحة الفنية رُزِئَت بأَدْواءِ المجتمع الأخرى من نفاق، و”تلبيس”، و”تكبير كيمان”، حتى أضحى من يسرق مجهود المطربين الكبار يُرَقّى إلى درجة الملك، والسلطان، والإمبراطور. أليس ذلك انعكاساً حقيقياً لحال السودان، الذي أضحى فيها سارقو المال العام شخصيات تحظى بالاحترام والتبجيل، وتُضفَى عليهم ألقاب إسداء المعروف، والخير والإحسان بمال مسروق؟

(4)

الأسوأ من ذلك كلِّه أنَّ من التخلُّف حقاً أن تظهر وسط هذا الجيل من المطربين والمطربات مغنيةٌ تؤدي أغنيات الحقيبة بـ “الرّق”، ومن يتفننون في استخراج “الحَشْرَجَات” الحلقية غير المحبوبة التي كانت سمة لأداء فرق أغنية الحقيبة، قديمِها وحديثِها. هؤلاء لا يريدون أن يفهموا، بل لعلهم لا يملكون عقلاً ليفقهوا أن الحقيبة ليست سوى حقبة من تاريخ الغناء السوداني. ولّت ولن تعود، علماً أن وجودها لم يستغرق أكثر من عقديْن، منذ ظهورها في نحو العام 1919م، حتى وفاتها مع ظهور الغناء المصحوب بالآلات الموسيقية، غداة بدء بث الإذاعة السودانية في عام 1940م. وهذه ليست المرة الأولى التي أقول فيها هذا الكلام. ولستُ وحدي من قال ذلك. هناك من الأحياء من الفنانين الكبار من يمكن الرجوع إليهم لإعادة تبيان وجهات نظرهم بشأن أغنية الحقيبة، خصوصاً الفنانيْن محمد الأمين، وصلاح مصطفى. وتكمن العودة لأرشيف مقابلات الفنان محمد وردي لمعرفة موقفه بهذا الخصوص.

(5)

والواقع أن الموقف الرافض للانغماس في طقوس كَهَنة معبد “الحقيبة” لا يقتصر على محمد الأمين، وردي، وصلاح مصطفى، وغيرهم من المُحْدَثين. فقد سأل الشاعر الصحفي محمد يوسف موسى، نقيب الفنانين السودانيين الفنان أحمد المصطفى، في مقابلة نشرتها مجلة “الإذاعة والتلفزيون”، في عددها الصادر في 15 فبراير 1968م، عن السبب وراء كثرة عدد من يؤدون أغنيات الحقيبة؛ فردّ أحمد المصطفى قائلاً: “السبب يرجع إلى أن الجيل الجديد الذي جاء بعد أغنية الحقيبة يرى فيها تجديداً وتلويناً (…) أغلب الأغنيات التي يؤدونها ليست ملكاً لهم، ولم يبذلوا فيها مجهوداً، ولم يقاسوا مرارة تجربة الخلق والإبداع. فقد وجدوها جاهزة، بدليل أن الفترة من 1941م، إلى 1954م، لم تظهر فيها أبداً أغنية حقيبة، رغم زمالتنا لكرومة وسرور (1941م-1946م)، وهما ملكا الفن الغنائي في ذلك الحين”.

(6)

وبالمثل، سأل الأستاذ محمد يوسف موسى، الفنان سيد خليفة، عن الموضوع نفسه، فردَّ الأخير، في مقابلة نشرتها مجلة “الإذاعة والتلفزيون”، في عددها الصادر في 10 أكتوبر 1968م، بالقول: “عندما كان للمطربين المُحْدَثين أغنياتٌ جديدةٌ وإنتاجٌ وفيٌر قبل أعوام، لم يكن لأغنية الحقيبة أيُّ أثرٍ (…) لا أقول إن الحقيبة ليست فناً. إنما الشيء المؤسف حقاً أن الأصوات التي تؤديها اليوم معظمها غير صالح للغناء (…) نعم، أغنية الحقيبة فنٌّ يجب أن نُقدِّرَه وأن نحترمَه. لكنه لا يمثلنا نحن أبناء جيل اليوم. لا لحناً ولا شعراً”. وأضاف الفنان سيد خليفة مخاطباً محاوره الشاعر محمد يوسف موسى: “أنت نفسك لو قدَّمت لي قصيدة من تأليفك على نمط أغنيات الحقيبة فسوف أرفضها”، أليس مؤسفاً حقاً أن يعيد التاريخ نفسه لتغُصَّ الساحة الفنية بمثل هؤلاء العاجزين عن تقديم جديد، والذين يستخدمون “الفهلوة” و”العلاقات العامة” لتقديم أنفسهم كسلاطين وإمبراطورات للغناء على أكتاف غناء الحقيبة، وأغنيات رواد فن الغناء السوداني؟

(7)

ومن مشكلات برنامج “أغاني وأغاني”، والبرامج المشابهة له، مثل برنامج الأستاذ حسين خوجلي “تواشيح النهر الخالد”، و”فن زمان” الذي تُقدِّمه سلمى سيد، أن مقدِّميها يأتون لتقديمها ليسمعوا ما اشتهته أنفسُهم من غناء، وليس ما ينبغي أن يَفرضَ نفسَه باعتباره غناءً جديداً، واجتهاداً خالصاً من ناظميه وملحنيه ومؤديه. تصوَّر أن هؤلاء الشباب يكونوا داخل الأستوديو مثل تلاميذٍ في فصل، ليس عليهم- إذا أرادوا المال واللمعان- سوى الانصياع لطلبات مُقدِّم البرنامج، بأداء الأغنية التي يريد أن يسمعها. وهذه إحدى محن الإعلام السوداني، التي لا بد أن نجِدّ في مواجهتها إذا أردنا تغييراً حقيقياً بقود إلى تحقيق أهداف الثورة التي تُراق فيها دماء الشهداء، ويتلظى فيها الشباب والشابات بجحيم الاغتصاب، والضرب، النهب، البطالة، وانسداد آفاق مستقبلهم.

Exit mobile version