قلب الحياة

حينما همّ الطبيب المختص بجس خافق “أمي” المعطوب, مازحته قائلة: “والله يا ولدي أنا كنت قايلة القلب ده للحب بس.. ما قايلاهو بيكون للوجع والعمليات.. مليتو قدر قدرتي بالمحبة لكن الله غالب”!!. رد عليها الطبيب الشاب بدوره مواسياً: “القلب ده قلب الحياة كلها يا حجة علوية”..!!

هذا الحوار القصير تركني فريسة العبرات والشعور المقيت بالضجر.. وأسوأ أنواع الضجر ذلك الذي يعتريك أمام مرض “أمك” وأنت تركض بها بين المشافي قليل الحيلة وقصير اليد.. لا تسعفك تجاربك ولا أفكارك ولا علاقاتك.. فتقف مكتوف اليدين.. واجف القلب.. مغرورق العينين بالدمع المالح.. متشبثاً برحمة الله.. باذلاً أصدق الدعوات..

وحكاية أمي مع المرض طويلة ومريرة وقاسية.. قابلتها على مر السنوات بالصمود والضحكة الساخرة والروح القوية والرضا والحمد.. فكانت تمدنا بالطاقة الإيجابية وهي تتلوى من الألم وتبذل جهد الأنبياء لإظهار الجلد العظيم. وأحسب أن امتحانك في العافية هو أعظم الامتحانات التي قد تعبر حياتك.. وابتلاءك في نعمة الصحة في بلاد تموت فئرانها من شدة الجوع يضعك أمام خيارين لا ثالث لهما.. إما الصبر والاحتساب.. وإما الجزع والجنون والحمد لله..

فيا “أمي”.. أبثك اليوم همي وأنتِ الملاذ.. وأسرد عليك حكايتي المحزنة مع مرضك العضال, أحدثك عن عجزي وضعفي وقلة حيلتي وهواني على المشافي التجارية الفاخرة، حيث تتوفر الخدمات الطبية المناسبة بحسب أوراق البنكنوت الموضوعة على طاولة المحاسب الأنيق..

فنحن يا “أمي” لا نزال نرزح تحت خط الإنسانية.. يأكلنا المرض والجهل والفقر.. ولا تتوفر الحياة الكريمة في بلادنا إلا لأصحاب القدرات المالية المتطورة الذين بإمكانهم بالمقابل السعي طلباً للعلاج أو التعليم خارج حدود الوطن أينما شاءت رغباتهم الوردية الجميلة..

فاعذريني يا سيدة الحنان والأمان لأنني عجزت عن منح قلبك ما يلزم من رعاية فخيمة.. وظللت أراقب ضرباته المضطربة بيد مغلولة وحيرة نائحة..

فالسواد الأعظم من أهل بلدي يعاقرون المعاناة في شتى صورها, ويظلون على انتظارهم لأمل كاذب.. يترقبون بزوغ فجر الارتياح وانسياب الأفراح في حيواتهم الجديبة. ولكن الحقيقة المجردة التي لا تنكرها العين إلا من رمد تشير بوضوح لكون الأسباب الحقيقية في تلك المعاناة تتمثل في النفوس الموبوءة بالأحقاد والجشع والتي تمثل نسبة كبيرة جداً من مكان رقعة السودان المسكين!!

فنحن يا “أمي” قوم نتبادل أنخاب الكراهية غير المبررة.. وأكبر الأحزاب لدينا حزب أعداء النجاح.. نمتهن الصعود على أكتاف بعضنا البعض.. ولا نتوانى عن التجريم والتنمر والبهتان والتجريح والإساءة دون واعز ضمير..

نحن يا “أمي” أمة لا نجتهد في تغيير ما بأنفسنا.. وننتظر معجزة من السماء لتغيير ما نحن عليه..

تلويح:

أمي.. وكل ما تبقى من حطام الدنيا الزائل.. قلبك الذي يمنح حياتنا الحياة.. شفاه الله..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى